مقالات

روائع خلدها التاريخ

من مقال على صحيفة الثورة

الديلمي وبن غودل والظاهري ثلاثي الاتساق المضيء في سماء الإبداع الوحدوي

«الطرقات البيوت المدارس الساحات العامة المتاجر دوائر العمل الرسمي والخاص ألسنة العامة والخاصة».. هذه هي المساحة الحقيقية التي اكتسحها أوبريت «خيلت براقاٍ لمع» ليعكس الإشراقات الإنسانية والحضارية لحياة اليمنيين الحافلة بالتنوع التراثي والثقافي والسياسي..
إنه أوبريت العيد العاشر للوحدة اليمنية الذي ملأ كل هذه الأماكن بعد أن بثته شاشات الفضائيات والإذاعات العالمية في أكبر حفل رسمي تشهده الجمهورية اليمنية بمناسبة مرور عشر سنوات على اليوم الوحدوي (22) مايو 1990م..
على مشارف العام الخامس والعشرين نحيا هذا الأوبريت ونتابعه بشغف, إذ لا زال حياٍ بكامل حضور دهشته الذهنية والوجدانية المعبرة عن نضالات اليمنيين وانتصاراتهم الوحدوية.. إنه الإنجاز الفني والإبداعي النادر الذي استطاع بأبعاده الفنية وفكرته المحورية أن يرسم صورة ذهنية ناصعة عن عراقة وحضارة اليمنيين في ظروف السلم والحرب والعمل والبناء والتنمية والإسهام الفكري والتنويري والقيمي ليشكل ذاكرة الوحدة الوطنية التي لا تشيخ في ذهن الأجيال المتعاقبة.. إلى فضاء هذا الأوبريت الذي شكل سابقة نوعية على مستوى الوطن العربي..
لقد التقت واتسقت في «أوبريت خيلت براقاٍ» ثلاث مواهب ذات عبقرية فريدة فموهبة الشاعر اليمني الكبير عباس الديلمي الذي كتب كلمات هذا الأوبريت واستطاع بفطنته وملكته الإبداعية وشاعريته وإلمامه الفني كشاعر غنائي أصيل أن يروض التراث والفولكلور الشعبي لأقاليم اليمن المترامية الأطراف في عمل فني بهذا العمق اللغوي والدلالي المتكئ على النهج الزواملي الأصيل والرسالة المحورية لوحدة اليمن كمنجز تاريخي على طريق الوحدة العربية وهو ما منح الأوبريت حضوراٍ وقرباٍ من نفوس العامة والخاصة ووقعاٍ مؤثراٍ في نفس كل عربي وحدوي.
والموهبة الثانية هي موهبة الملحن اليمني الكبير الفنان أحمد صالح بن غودل الذي تمكن بقدرته الفنية الغنائية وإلمامه بتفاصيل وخبايا هذا التنوع الفولكلوري للإيقاعات والألحان الزواملية في كل المناطق اليمنية وعشقه للتجديد استيعاب الموروث الشعبي الغنائي وتقديمه في إيقاع ولحن أكثر حداثة وعراقة ومعاصرة..
أما الموهبة الثالثة: فهي موهبة الفنان المسرحي اليمني القدير فريد الظاهري صاحب التجربة الفنية المخضرمة والقدرات الإدارية في توجيه الحشود في الأعمال الفنية الكرنفالية ليكمل بهذه القدرات الدائرة الفنية للوحة ممسكاٍ بخيوط التراتبية والاتساق الموضوعي والفني والحركي لتقسيمات هذا الأوبريت.. ليشكل الديملي وغودل والظاهري ثلاثي الاتساق المضيء في سماء الإبداع الوحدوي..
وأدى رقصاته اليمانية والمعبرة عن وحدوية التنوع اليمني أرضاٍ وشعباٍ وتراثاٍ نحو 1600 مغن وراقصُ وخيِال.. والأهم في نجاح هذا المشروع هو الاهتمام الرئاسي والسياسي والإنفاق المالي على إنتاجه والإشراف المباشر على كل عناصر تكوينه من القيادة السياسية حينها..
البساطة والحداثة
لقد تميز مدخل الأوبريت بالبساطة والاتساق في المعنى والحداثة الشعرية في المبنى إذ لم يكن البيت الشعري مكوناٍ من شطرين متقابلين بل بدا كشعر التفعيلة الموزون ولم يكن جامداٍ بل كان طرحاٍ حركياٍ يوحي للسامع الذي لا يشاهد العرض المسرحي بحركة المؤدين الراقصة والمتناغمة مع إيقاع الدفوف والطبول:
«خِيـلـْت بِـرِاقـا لمِـِـــع..
من فوق (صنعاء) حِـن رعـده وسيلـه…
يروي ضمــا أرض اليمــن
***
ونـجــم وحــدتنا ســطعú..
وشـق قلـب الظلــم والقى بليلــه
من خلـف أطـــراف الوطــنú
***
بعيــــــد ولا ممتنــعú
محـال يستعصـي عـلى مـن دليلــه
دســتور بالشــرúع اقـتـرن»
بعد هذه التوطئة في مدخل الأوبريت كان لا بد أن يتحول الإيقاع واللحن إلى محطة جديدة تمثل الفصل بين خيالات النظر إلى اللمعان المتكرر للبرق المبشر بخير الوحدة إلى الإفصاح عن تعامل الشعب -الذي يتحدث الشاعر بلسانه- مع هذا البرق الذي يشغل الهواجس بحلم الوئام وخير الوحدة ونيل الأماني بعد أن سطع نجمها واقترن دستورها بالشريعة الغراء فأخبر الشاعر عن الشعب بقوله الذي تردده الجموع:
وإحـنا بعـون اللـه فكينـا العســـار / عظيم من علياه عِجـل بالفـرج
سارت قوافـلنا ووحـدنا المســـار / في درب وحده نفتديها بالمهـــج..»
ومن هذه المحطة انتقل اللحن من الحركة البطيئة إلى الأسرع ذو اللحن الشجي الذي يثير الحماسة ويشد النفس بوقعه العذب ويبوح بما بذله اليمنيون في سبيل الوصول إلى الوحدة:
خِـبــِر النــاس باللــه يا القـدر / (إن بعـد الحرايــب عافيـــه)
شِــع نجـم المحبـة والظفــر / فوق أرض الرخاء والحريــة
إلى قولــه :
سيل وادي (تْـْبن) أروى الشجـر/ في (الحسيني) وسقـى الكاذيـه
والـمشـرد تأمـن واسـتـقـــر/ فـي ديـاره ونفســه راضيــــــه
ومن أهم مقاطع الأوبريت الجامع للتنوع اليمني المقطع المعبر عن أرض اليمن الطيبة وإصرار أبناء على التضحية والعطاء وعدم الخنوع للطغاة وعزتهم بأرضهم ومعادلة النصر التاريخية لليمنيين في ذلك والمؤيد بعون الله ووعده وحفظه.. في مقتطفات من قوله:
أرض السعيدة يا ديار العـز والهنــاء
يا طيبه في وصفهـا وعند ربنــــا
وفــي كتـابنــا..
أسماش ( أرض الجنتين ) الخالق المعبود.
***
جباهنــا لا تنحني للظلم والطغـاة
ياشامخه بأمجادها وأبنـائهـا الأبـاه
ومن ركـب غِــواه …
يترك عظامه تحت أقدام الجبال السود
***
خابت مساعي كل من قـد رام عثرتي
للمجد واصلت طريقها مسيرتـي
هـذه إرادتــي…
وشعبنا بالنصر من رب السماء موعـود
بعد ذلك يستعرض الأوبريت -عبر نقلات مسرحية لمجاميع راقصة تكثر تفاصيلها البديعة- قيم اليمنيين في السلم والحرب ومواطن الدفاع عن حياض وطنهم ومصير كل من يسعى لإثارة الفتن والشرور بين أبناء اللحمة اليمنية الواحدة:
خِـبريهــم يا الجــبال المنيعــة / عن مآثـرنـا بـأرض الكرامـــة
نبل أخـلاق النـفـوس الرفيـعــة / في ضمائرنـا ونخشـى المـلامــة
من سعـى ما بيننــا بالـوِقـيـعة / بات يتجـرع كؤوس النـدامــة
وأنتِ يا عهـد الجفــا والقطيعــة/ ( قد عليك اليوم مـده وقــامـة)
***
قالهـا دستـور كـلاٍ يطـيـعــه / في يـدك يا شعب أمـر الـزعامـة
واستنـد قانـوننــا للشريعــــه / واتضــح للكـل بـر السـلامـة
أما في هذا المقطع فيستعرض الشاعر الحضور التاريخي والحضاري لليمن واليمنيين في عصور التاريخ القديم أو في التاريخ الإسلامي:
شعبي حمـاك الله من عليـا سمـاه / وأصـلت (بلقيس) فيك أعمالهــا
بالعـدل والشورى وتحصين الجبـاه / من ظـْلـم من يسعى إلى إذلالهــا
عن دعوة الإيمان من صـد الغـزاه / والمعتدي غير اليمـن وأقيِـالهــا
وعن رسـول الله قـد قـال الرواة / العلـم والإيـمان في أجـيالـهـا
من غِيـرنا آواه وأستقبـل خطـاه / وناصر الدعوة على جْهـالهــا
شعب اليمن لولاه ما قامت صـلاه / أو جاهليــه جرجرت أذيالـهـا
التنوع والمحور الواحد
بعد ذلك انتقل الأوبريت شعرا وعرضا مسرحيا وإيقاعا ولحناٍ إلى أقصى شرق اليمن ليعكسوا الثقافة الحضرمية والمهرية والسقطرية في الأزياء والقول والرقصة الحضرمية الشهيرة بـ»الويدان» وكذلك الفن الغائي الحضرمي المعروف بـ»الدان الحضرمي» وهذا عكس الشمول والتنوع الذي تميز به الأوبيريت:
ويـدان : با نرقص على الويـدان ويـدان : والبالة وصوت الـدان
ويـدان : باللقـيا وصْلـح الشـأن ويـدان : لا مْـوذي ولا شِيطـان
ويـدان : هـذا خِـيرنا بـِشــر ويـدان : وأسعد بحـرها والبــر
ويـدان : هـذا مركـب البنــدر ويـدان : حـدد وْجهـِتـه رْبِـان
***
ويـدان : عصـر السـد والبتـرول ويـدان : خيره ضاعـف المحصول
ويـدان : وأصبـح حقنـا مكفــول ويـدان : والدستـور لْـه ميــزان
ولأن الشاعر والملحن والمخرج حرصوا على أن تدور مقاطع الأبرويت ورقصاته المتنوعة حول زامل خيلت براقاٍ لمع .. أعاد المخرج الإيقاع الغنائي والحركة الفنية الراقصة لمجاميع الأوبريت إلى نفس المطلع أو المدخل الذي جاء على إيقاع (خيلت براقا لمع) الزامل المعروف والمنتشر في مختلف مناطق اليمن وجهاته إذ يبدو هذا المقطع من نفس المطلع وتفنن المخرج في فصله لتعود العملية الفنية بعد الويدان الذي يعبر عن أشهر الرقصات الحضرمية أقصى شرق اليمن:
« سهيــل يا نجـم اليمـن
من فوق ( شمسان ) الأبي شِع نـوره
أزاح ظـْلمه بعـد ليـل
***
من سفح ( صعـده) لا ( عــدن)
قوس انتصـار الشعب غْنت طـيوره
ما في النجـوم الا سهيــل
***
نــورك علـى كـل الــوطن
ضِـوى ونـور عهـدنا من بكـوره
والخيـر سِيـله بعـد سِيــل
***
وإحنا بعـون الله يـا واحـد صـمد / حِكــيم وحـد صفنـا بعد افتراق
شئنـا وشـاء الله وحــده للأبــد / والرأي واحد والأشقـاء في عنـاق
بعد ذلك ينتقل الشاعر إلى شرح مختزل عن رضى اليمنيين بوحدتهم وخيرها الذي عم البلاد متعهداٍ بحماية وطنه ووحدته :
قــال اليماني : أصلحِ الله الأمـور / بعـد العجـاف القاسية وأحـزانــها
والطيبه في وصف باريـهـا الغفـور / بالعـدل صِـفد شعبنـا شيطانــها
من بعد ليل الأمس بِشـر عصر نـور / ضِـوى سواحلهـا مع وديـانــهـا
إلى قوله :
أرض اليمن وأنـا لـها حارس وسـور / من( موديـه ) لا ( العِـبر) لا شْطآنها
أنـا لهـا البانـي وحاميـها الغيـور / وكـل غازي تحرقــه نيرانــهــا
بوابة الوحدة العربية
من قلـعـة الأنصـار جـاء النبــأ/ وزف لــلأهـل التـهـــانــي
وشـاهدوا من فوق وادي سبــــأ / بِشــارة البـرق اليمــانــــي
ما الذي يمكن أن يحمل النبأ للعالم العربي في هذين البيتين وما الحلم الذي يحمله الوجدان العربي ¿ على مدى عصوره المتعاقبة وبالذات في التاريخ المعاصر.. إنها الوحدة العربية الحلم الكبير لقد شكلت الوحدة اليمنية بوابة حقيقية للوحدة العربية الشاملة وخبر الوحدة اليمنية الذي يزفه البرق اليماني في هذا الأوبريت المميز والنادر في المنطقة العربية هو البشارة لكل عربي بالوحدة اليمنية كمكسب لكل عربي على طريق الوحدة العربية:
وحـده مكاسبــهـا لكل العــرب / وهـْم لـها عــز المْـســانــد
منجـز يمانـي فيـه عــز الطـلب / لـمن شِـكـى ليــلِ التبـاعــد
ولم تأت من محظ الصدفة بل بارك الله إعلانها كثمرة من ثمار النضال اليمني الطويل الذي ضحى اليمنيون بأعز ما يملكون في سبيل وضع هذه البذرة الوحدوية في طريق الأمة العربية التي تعاني الشتات كما جاءت هذه البذرة كانعكاس لاتساق القواسم المشتركة وواحديتها بين كل مكونات البيت العربي:
بـذرة محبـة جـددت حـلمنـــا / بيــــــــوم وحــدتنــا الكـبيــرة
فالبيـت واحـد والوفـاء طبعنــا / والرِبـع واحـد والعشـــيــرة
وبعدها يأتي الختام المناسب لكل خيوط الفخر والاعتزاز ومشاعل النصر بالوحدة اليمنية على تربة منبع العروبة ومنبتها الأولى حيث اليمن واليمنيون الذي يعشقون السلام:
هنـا نفــوس تعشـــق السـلام / لا تحـرق الزيتــون والحمـــام
هنـا يســود الحــب والوئــام / هـنا ضيــاءْ يـدحــر الظـلام
فلتسلمـــي يا يمــن الســـلام / ولتـشمخـي يا يمــن الســـلام
أخيراٍ
حصل أوبريت «خيلت براقاٍ لمع» على جوائز محلية وعربية كثيرة أهمها حصوله على الجائزة الذهبية في مهرجان القاهرة الدولية عام 2000م والعام 2003م.. ومن الشهادات العربية اللافتة للانتباه والتي كتبت في أوبريت «خيلت براقاٍ لمع» ما قاله المحلل العربي الكبير فيصل جلول في مقالُ نشره في جريدة الحياة اللندنية في عددها الصادر في تاريخ 26/8/2000م تحت عنوان: «خيلت براقاٍ لمع ..» أوبيريت يمني جدير بالتقدير» : وأخيراٍ فعلها اليمنيون وسجلوا سابقة عربية في فن الأوبيريت من خلال المغناة الشعبية الضخمة: «خيلت براقاٍ لمع..» التي يمكن اعتبارها ومن دون مخاطرة كبيرة الأولى من نوعها في الجزيرة وربما في العالم العربي. ونقول «فعلها اليمنيون» لأن الاعتقاد السائد والتوقع كانا يقتضيان أن تأتي مبادرة من هذا النوع من مصر أو من لبنان أو من المغرب الأقصى حيث الإمكانات والمبادرات الفنية والثقافية تتفوق على نظيرتها اليمنية وتتجاوزها بأسبقيتها الزمنية وبانفتاحها المشهود على ثقافة أو فنون الغرب المتفردة والمنتجة لمعايير أو قيم الثقافة والفنون الطاغية في عصر العولمة. وإذا كان صحيحاٍ أن محاولات مصرية ولبنانية في فن الأوبيريت ظهرت في الستينيات والسبعينيات من خلال فرق فنية شهيرة شأن فرقة رضا المصرية أو الرحابنة وفيروز فالصحيح أيضاٍ أن أوبيريت «خيلت براقاٍ لمع..» تفوق المحاولات السابقة في الحجم والمضمون والصنعة والخصوصيات المحلية في التعبير والموسيقى.
وأضاف جلول: وبموازاة معاني الفخر والشعور بالاعتزاز والانشغال السياسي جاءت ألوان الملابس التي ارتداها المنشدون لتعزز المعاني نفسها فغلب اللون الكاكي المطعم بلون «السومو» واللون الأبيض المحلي واعتمر المنشدون نوعاٍ من الكوفية المحلية القصيرة التي تغطي الجزء الأعلى من الرأس وتخفي جانباٍ من الرقبة. ولا تختلف الألوان عن الطبيعة المحلية… أما الجنابي والبنادق والسيوف التي حملها المؤدون وكانوا يحركونها كلما اقتضى الزامل فإنها تعكس بإفراط العلاقات التقليدية السائدة.

زر الذهاب إلى الأعلى